ثقافة وفن

من بين انفاس الرحيل

وفاء أبو السعود  تكتب .. من بين انفاس الرحيل 

بقلم الكاتبه / وفاء أبو السعود 

قصة قصيرة

خرجت في نزهة إلى النادي القريب من منزلها، تستمتع بجمال السماء عند الغروب، وبالشفق الذي يلون الأفق بأجمل درجات الأحمر والذهبي. كانت تراقب ضياء الشمس وهي تودّع النهار بهدوء، تاركة وراءها خيوط الظلام تزحف رويدًا رويدًا. شعرت بنسمات الهواء العليلة تداعب وجهها، وبأصوات العصافير العائدة إلى أعشاشها في انسجام جميل، وكأنها تعلن ختام يومٍ مضى واستقبال فجرٍ جديد

شعرت فجأة ببعض التعب، فقررت مغادرة المكان والعودة إلى منزلها سيرًا على الأقدام. لكنها لم تستطيع! ما هذا الوهن الذي تسلل إلى جسدها فجأه ودون مقدمات؟ كيف تبدلت حالتها بهذه السرعة؟ لم تعد قادرة على التقدم خطوة واحدة، وكأن قدميها أثقل من أن تحملها لبضع أمتار. همست في أذن صديقتها ترجُوها أن تُحضِر عربة تُقلّها إلى المنزل، فبدت الدهشة على وجه صديقتها، لكنها لم تتردد لحظة في تنفيذ ما طلبت

ما إن وصلت إلى منزلها حتى ألقت بجسدها المنهك على أقرب كرسي، وسط نظرات الدهشة والقلق من حولها. تساءل الجميع عمّا جرى، وكيف بلغت هذا الحد من الإعياء في وقتٍ وجيز، لكنها لم تجب… فقد بدأت رحلتها مع كورونا العصر دون أن تدري. أخذ وعيها يتلاشى شيئًا فشيئًا، ولم تعد تدرك ما يدور حولها، ولا من يخاطبها. غابت عن ذاتها، وابتعدت عن واقعها بهدوء مؤلم؛ فلم يعد ذلك الذهن اللامع كما كان، ولا تلك العينان المتألقتان، حتى خفت صوتها تمامًا وسكن لسانها عن الكلام

كانت ليالٍ طويلة حالكة السواد، يتداخل فيها الليل بالنهار حتى لا يُعرف أيهما يسبق الآخر. ساعاتها بطيئة حدّ الموت، ودقائقها بلا معنى ولا قيمة، وكأن الزمن قد توقف عند أنين الألم. لم تعد ترى من الدنيا سوى بضعة أمتار تحيط بها، حفظت تفاصيل المكان حتى ملّتها عيناها من تكرار المشهد. نظرت إلى ذلك الجدار المقابل لها، فإذا به يتمايل أمامها، وكأنه يقبع على صدرها بثقل الجبال، فلا تدري كيف تُزيح عن نفسها هذا العبء أو تهرب من وطأته.

كانت ترجو الليل أن ينجلي، وتنتظر بزوغ الفجر بلهفةٍ، علّه يحمل معها بدايةً جديدة، ويومًا أخف وطأة من الذي مضى

أصبحت تستيقظ لحظاتٍ قليلة ثم تغفو من جديد، تتناوبها صحوات قصيرة ونومات متقطعة، حتى تُفيق بعد زمنٍ على أنفاسها الهادئة تلامس وجنتيها، فتهمس لها بأنها ما زالت على قيد الحياة

لم يعد في قلبها اهتمام لأي شيء، فقد زهدت الدنيا بكل ما فيها من بريق وزخرف. كان الموت يتنازع في داخلها مع بقايا الحياة، تجلس تارةً تحاسب نفسها، وتارةً تستحثّها على الصبر والتمسك بالأمل، علّها تتجاوز تلك اللحظات القاتمة.

وفاء أبو السعود  تكتب .. من بين انفاس الرحيل

وفي أعماقها، دارت معركة صامتة بين حبال الأمل وجبال اليأس، تتناوبان السيطرة على قلبٍ مرهق يبحث عن بصيص نور، ويتشبث بالحياة ليتجاوز ما يعصف به من ألم ووَهَن

أخذت تبحث عن راحتها من بين أنياب الألم، تتقلب بين الدقائق والساعات، رافعةً أكفّها إلى السماء تتضرع إلى الله أن يمنحها الصبر ويعينها على احتمال ما بها. وفي الوقت نفسه، رفعت رايات الاستسلام، رايات بيضاء يعلوها الرضا بقضاء الله وقدره، مُعلنة عجزها عن مقاومة الألم أو تغيير ما كُتب لها

كانت تلك الليالي الطويلة التي قضتها مرآةً كاشفة لحقيقة الإنسان ومن حوله، كشفت لها ضعف الجسد وهشاشة النفس، ولحظات الانكسار التي تمرّ بها الروح حين تقترب من حافة الفناء. أدركت في تلك الساعات قسوة الدنيا وزيف بريقها، وهي التي شعرت أنها على وشك وداعها.

اكتشفت أن من وهبته إخلاصها وحبّها لم يشعر بوجعها، واكتفى بالوقوف يراقبها من بعيد . بينما آخر، لم تكن تعيره اهتمامًا، كان الأقرب إلى محنتها، يعيش تفاصيلها، ويترقب أنفاسها حتى في لحظات غفوتها

مرّت ليالٍ طويلة حتى بدأت تتعافى مما ابتلاها الله به، ويومًا بعد يوم استعادت شيئًا من عافيتها وقوتها. غير أن نظرتها إلى الحياة تغيّرت؛ فقد لامست الموت عن قرب، ورأت الدنيا على حقيقتها بعينٍ ثاقبه عرفت الزيف والفناء. أدركت أن لا وقت للأقنعة، ولا مكان للكذب، ولا سبيل للمجاملة على أوتار الوهم، فهي من الذين لا يُحسنون العزف على نغمات الأكاذيب

ذهبت تحادث نفسها بصدق، تحاسبها وتواجهها بالحقيقة، متسائلةً عن تلك الأيام الخاوية التي أهدرتها في السعي خلف سراب الدنيا وزخرفها. نظرت إلى جبال الأماني والأحلام التي شيّدتها يومًا، فإذا بها تتهاوى أمام عينيها، وقد أدركت كم خدعها طول الأمل. أسدلت ستائر الندم على ماضٍ امتلأ بالبؤس والعناء، لكنها اليوم وقد استعادت عافيتها، استعادت معها ذاتها التي ضاعت في زحام الحياة. كانت تلك التجربة من أقسى ما مرّت به، لكنها أيضًا كانت أصدقها، إذ كشفت لها جوهر الحقيقة ومعنى الحياة.

عادت بذاكرتها إلى تلك اللحظة التي خرجت فيها تستمتع بشفق المغيب وتودّع ضوء الغروب، دون أن تعلم أن القدر كان يُخبّئ لها وداعًا آخر… وداعًا لحياتها وعالمها الذي كاد أن يرحل معها في تلك اللحظة

في رحلةٍ قصيرة بدأت بخطواتٍ هادئة نحو الغروب، وجدت نفسها على تخوم عالمٍ آخر… عالمٍ يتنازع فيه الضوء مع الظل، والأمل مع اليأس. لم تكن تعلم أن نزهةً بسيطة ستقودها إلى أعماق المرض، ثم إلى مواجهة صادقة مع ذاتها وحقيقتها.

بين سكون الليل وآهات الضعف، عُرفت هشاشة الإنسان وزيف الدنيا، ورأت الموت يقترب منها حتى لامس أنفاسها. لكن من قلب الألم ووهج الفناء، وُلد فيها وعيٌ جديد ونورٌ لم تعرفه من قبل.

هي حكاية روحٍ وصلت إلى حافة الضوء… فاختارت أن تعود إلى الحياة أكثر صفاءً، وأكثر إيمانًا بمعناها الحقيقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى