ثقافة وفن

رواية “كلكامش.. عودة الثلث الأخير”

للجلبي تُحوّل الخلود إلى سؤال أخلاقي فلسفي معاصر

رواية “كلكامش.. عودة الثلث الأخير” للجلبي تُحوّل الخلود إلى سؤال أخلاقي فلسفي معاصر

تابع
صموئيل نبيل اديب

– في خطوة أدبية جريئة تعيد إحياء أقدم الملاحم البشرية، أطلقت رواية “كلكامش: عودة الثلث الأخير” للكاتب واثق الجلبي، حواراً نقدياً وفلسفياً عميقاً حول الهوية والأخلاق في العصر الحالي. فالدراسة التحليلية التي قدمها الكاتب حيدر فليح الشمري، تؤكد أن الرواية تتجاوز مجرد إعادة سرد الملحمة السومرية، لـ”توليدها من رحم المعاصرة”، محولةً الأسطورة إلى مرآة تكشف وجوه الحاضر المتناقضة.

الهاجس الأخلاقي في البحث عن الذات

بحسب الكاتب حيدر فليح الشمري، فإن “الأخلاق سرٌّ من أسرار الوجود” هي العبارة التي تلخص الهاجس العميق الذي يحرك النص. ففي هذه الرواية، لم يعد الخلود مجرد بحث عن عشبة سحرية، بل تحول إلى سؤال وجودي وفلسفي عن معنى البقاء وعن قيمة الإنسان في زمن فقد فيه العالم ملامحه الأولى. يشير الشمري إلى أن كلكامش هنا ليس ملكاً تاريخياً وحسب، بل هو رمز لإنسان العصر الحديث، الذي أصبح مثخناً بالأسئلة، ويركض في سباق محموم اختلطت فيه الذاكرة بالحقيقة والخلود بالضياع. وتستثمر الرواية الإرث الميثولوجي العراقي لفتح حوار حاسم مع الذات العراقية والعربية، مستخدمةً الماضي كبوابة لتفكيك تعقيدات الوجود الراهن، بدلاً من مجرد تجميله.

تداخل الأسطورة والحداثة: تقنيات سردية متحررة

لفت الشمري الانتباه إلى البناء السردي المتفرد للرواية، حيث استخدم الجلبي ببراعة “تقنية اللقطة السينمائية”. هذه التقنية تمنح النص إيقاعاً بصرياً سريعاً، وتتيح للزمن أن يتناثر ويتنقل بين المشاهد بمرونة فائقة. ونقل الشمري عن الناقد مصطفى لطيف عارف أن هذه التقنية بالذات منحت الجلبي فرصة “التحرر من القيود المكانية والزمانية في السرد”، جاعلةً القارئ يعيش تنقلاً حراً بين الأزمنة وكأن المشاهد تتبدل على شاشة داخلية.
أما على مستوى اللغة، فيؤكد الشمري أنها تنساب ببراعة بين النثر والشعر، ما جعل الرواية تُقرأ أحياناً “كقصيدة طويلة تتنفس بالحكمة والندم والرجاء”. هذا المزيج اللغوي يمنح الرواية نَفَساً يميل إلى المناجاة الروحية، بجمل قصيرة ومكثفة تصنع لحناً داخلياً يعيد شعور الملاحم القديمة.

كلكامش المعاصر: البحث عن جدوى الحياة

في تحليل البعد الفلسفي، يوضح الشمري أن الجلبي يقدم بطله بصيغة مزدوجة: كلكامش الأسطورة، وكلكامش الإنسان المعاصر الذي يمثل مرآة للكاتب نفسه. هذا التداخل يكشف الأسئلة الكبرى حول الهوية والوجود بعد كل هذا الخراب المتراكم، ويطرح التساؤل: هل النجاة هي النجاة من الموت، أم النجاة من ثقل الذاكرة؟ وقد وصف الناقد جمعة عبد الله هذا الأسلوب بأنه يأخذنا “في دهشة الإبهار، في صياغة جديدة خلاقة لرؤية لملحمة كلكامش”.

ويشدد الشمري على أن الرواية ليست بحثاً عن الخلود المادي، بل عن “جدوى الحياة نفسها”. مجتمع “أوروك الجديد” الذي صوره الجلبي هو صورة مكررة لأزمنة الخطايا والضياع، حيث يطارد كل جيل عشبة وهمية تاركاً خلفه رماد الحروب والعنف. وبهذا، تصبح الأسطورة “وسيلة نقدٍ حضاري”، يواجه بها الكاتب العالم بجرأة، محملاً نصه بعبق الأسئلة الوجودية التي تُعيد الأخلاق إلى مركز المعنى.

خاتمة تؤكد التمرد على المألوف

يختتم الكاتب حيدر فليح الشمري قراءته بالتأكيد على أن “كلكامش: عودة الثلث الأخير” هي عن الإنسان الذي يخشى أن يزول دون أن يترك أثراً ذا قيمة. ويرى في أسلوب الجلبي “خروجاً من مألوف السرديات العراقية” واتجاهاً نحو كتابة أكثر تمردًا على الشكل الكلاسيكي. إنها رواية تخاطب القارئ والتاريخ في آن، متسائلةً: “هل يمكن أن نولد من جديد، لا بالدم، بل بالمعنى؟” ويؤكد الشمري أن هذا النص يستحق أن يُدرَس لا أن يُقرأ فقط، كونه يجعل من الأسطورة أداة وعي، ومن الحكاية “جسرًا نحو الأخلاق التي هي سرّ الوجود”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى